رجوع أبو سفيان إلى مكّة:
قال العباس لأبي سفيان: ألحق الآن بقومك فحذّرهم، فخرج أبو سفيان سريعاً حتّى أتى مكّة، فصرخ في المسجد: يا معشر قريش هذا محمّد قد جاءكم بما لا قبل لكم به، قالوا: فمه، قال: من دخل داري فهو آمن، قالوا: وما تغني عنّا دارك، قال: ومن دخل المسجد فهو آمن، ومن أغلق عليه بابه فهو آمن.
فقامت إليه زوجته هند بنت عتبة أم معاوية، فأخذت بلحيته ونادت: يا آل غالب اقتلوا هذا الشيخ الأحمق، هلاّ قاتلتم ودفعتم عن أنفسكم وبلادكم، فقال لها: ويحك اسلمي وادخلي بيتك، وقال: لا تغرنّكم هذه من أنفسكم، فقد جاءكم ما لا قبل لكم به (5).
دخول النبي (صلى الله عليه وآله) مكّة المكرّمة:
أمر رسول الله (صلى الله عليه وآله) الزبير أن يدخل مكّة من أعلاها، فيغرز رايته بالحجون، وأمر خالد بن الوليد أن يدخل من أسفل مكّة، ونهى عن القتال إلاّ لمن قاتلهم، ودخل هو (صلى الله عليه وآله) من أعلى مكّة، وكانت الراية مع سعد بن عبادة.
وقد غلظ سعد بن عبادة على القوم، وأظهر ما في نفسه من الحنق عليهم، فدخل وهو يقول: اليوم يوم الملحمة ** اليوم تسبى الحرمة.
فسمعها العباس فقال للنبي (صلى الله عليه وآله): أما تسمع يا رسول الله ما يقول سعد، وإنّي لا آمن أن يكون له في قريش صولة.
فقال النبي (صلى الله عليه وآله) لعلي (عليه السلام): (أدرك سعداً فخذ الراية منه، وكن أنت الذي تدخل بها مكّة)، فأدركه علي (عليه السلام) فأخذها منه .
ودخل رسول الله (صلى الله عليه وآله) مكّة على ناقته القصواء، واضعاً رأسه الشريف على الرحل، تواضعاً لله تعالى، ثمّ قال: (اللهم أنّ العيش عيش الآخرة)، فقيل له: يا رسول الله، ألا تنزل دارك؟
فقال: (وهل أبقى عقيل لنا داراً)، ثم ضربت له قبة في الأبطح فنزل فيها، ومعه زوجتاه أم سلمة وميمونة (6).
دخول النبي (صلى الله عليه وآله) إلى المسجد الحرام: اقبل (صلى الله عليه وآله) إلى الكعبة فاستلم الحجر الأسود، وطاف بالبيت على راحلته، وعلى الكعبة، وفي رواية حولها ثلاث مائة وستون صنماً، لكل حي من أحياء العرب صنم، فجعل كلّما يمر بصنم منها يشير إليه بقضيب في يده، ويقول: (جَاء الحَقُّ وَزَهَقَ البَاطِلُ إِنَّ البَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا) (7).
فما أشار لصنم من ناحية وجهه إلاّ وقع لقفاه، ولا أشار لقفاه إلاّ وقع لوجهه حتّى مر عليها كلّها، وكان أعظمها هُبل.
وكان المقام لاصقاً بالكعبة، فصلّى خلفه ركعتين، ثم أمر به فوضع في مكانه.
ثم جلس ناحية من المسجد، وأرسل بلالاً إلى عثمان بن طلحة أن يأتي بمفتاح الكعبة، فجاء به ففتح رسول الله (صلى الله عليه وآله) باب الكعبة، وصلّى فيها ركعتين وخرج، فأخذ بعضادتي الباب والمفتاح معه.
فخطب الناس فقال: (لا إله إلاّ الله، وحده لا شريك له، صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده، ألا كل مأثرة أو دم أو مال يدعى فهو تحت قدمي هاتين، إلاّ سدانة البيت، وسقاية الحاج، فإنّهما مردودتان إلى أهليهما).
ثم قال: (يا معشر قريش، إنّ الله قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية وتعظمها بالآباء، الناس من آدم وآدم خلق من تراب)، ثم تلا: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللهِ أَتْقَاكُمْ) (
.
ثم قال: (يا معشر قريش ويا أهل مكّة ما ترون أنّي فاعل بكم)؟ قالوا: أخ كريم وابن أخ كريم، فقال: (اذهبوا فانتم الطلقاء)، فاعتقهم وقد كان أمكنه الله من رقابهم عنوة، فبذلك سمّوا الطلقاء.
ثم دعا بعثمان بن طلحة فردّ إليه مفتاح الكعبة، وقال: خذوها يا بني أبي طلحة تالدة خالدة لا ينزعها منكم إلاّ ظالم، وانتقلت سدانة الكعبة بعد عثمان إلى أخيه شيبة، ثم توارثها أولاده إلى اليوم.
ودفع السقاية إلى العباس بن عبد المطّلب، وكانت لأبيه عبد المطّلب، ثم قام بها بعد العباس ابنه عبد الله، وهي أحواض من جلد يوضع فيها الماء العذب لسقاية الحاج، ويطرح فيها التمر والزبيب في بعض الأوقات.
وحانت صلاة الظهر، فأذّن بلال فوق ظهر الكعبة، وبث (صلى الله عليه وآله) السرايا إلى الأصنام التي حول مكّة فكسّرها، ونادى مناديه: من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يدع في بيته صنماً إلاّ كسّره، وأتى الصفا يدعو الله تعالى ويذكره.
فقال الأنصار فيما بينهم: أترون أنّ رسول الله إذ فتح الله أرضه وبلده يقيم بها، فلمّا فرع من دعائه قال: معاذ الله، المحيا محياكم، والممات مماتكم (9).
. عفو النبي (صلى الله عليه وآله) عن أهل مكة:
أمر (صلى الله عليه وآله) بقتل جماعة، ولو كانوا تحت أستار الكعبة، قيل ستة رجال وأربع نساء، وقيل أحد عشر رجلاً، فمن الرجال:
عبد الله بن أبي سرح، كان قد اسلم فارتد مشركاً، ففرّ إلى عثمان، وكان أخاه من الرضاعة فغيبه، ثم أتى به رسول الله (صلى الله عليه وآله) فاستأمن له، فصمت (صلى الله عليه وآله) طويلاً، ثم قال: (نعم)، فلمّا انصرف به قال (صلى الله عليه وآله): (لقد صمت ليقوم إليه بعضكم فيقتله)، فقال أنصاري: هلا أومات إليّ، قال: (إنّ النبي لا يقتل بالإشارة).
وعبد الله بن خطل، كان قد اسلم فبعثه رسول الله (صلى الله عليه وآله) مصدّقاً، وكان معه مولى مسلم يخدمه، فأمر المولى أن يذبح له تيساً، ويصنع له طعاماً، فاستيقظ ولم يصنع له شيئاً، فعدا عليه فقتله، وارتد مشركاً، وكان شاعراً يهجو رسول الله (صلى الله عليه وآله)، قتله سعيد بن حريث المخزومي وأبو برزة الأسلمي اشتركا في دمه.
والحويرث بن نقيد كان يؤذيه بمكّة، قتله علي بن أبي طالب (عليه السلام).
ومقيس بن صبابة، كان له أخ يسمّى هشام، قتله رجل من الأنصار خطأ في غزوة ذي قرد، وهو يظنّه من العدو، فأعطاه النبي (صلى الله عليه وآله) ديّته، ثم عدا على قاتل أخيه فقتله، ورجع إلى قريش مرتداً، قتله نميلة بن عبد الله رجل من قومه.
وعكرمة بن أبي جهل، هرب إلى اليمن، وأسلمت امرأته أُم حكيم بنت عمّه الحارث بن هشام، فاستأمنت له رسول الله (صلى الله عليه وآله) فأمنه، فخرجت في طلبه حتّى أتت به رسول الله (صلى الله عليه وآله) فاسلم.
ووحشي قاتل حمزة، استؤمن له فأمنه، وقال: (لا تريني وجهك)، فمات بحمص، وكان لا يزال سكران.
وكعب بن زهير بن أبي سلمى، كان يهجو رسول الله (صلى الله عليه وآله)، هرب فاستؤمن له فأمنه.
وهبار بن الأسود، الذي روّع زينب بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله).
والحارث بن هشام أخو أبي جهل لأبويه، وزهير بن أمية، وصفوان بن أمية، وهؤلاء اسلموا فعفا عنهم.
ومن النساء:
هند بنت عتبة أسلمت وبايعت، وقينتان لعبد الله بن خطل ـ فرتنا وقريبة ـ كانتا تغنّيان بهجاء رسول الله (صلى الله عليه وآله)، الذي يصنعه لهما، فقتلت قريبة وهربت فرتنا، فاستؤمن لها رسول الله (صلى الله عليه وآله) فآمنها، فعاشت إلى خلافة عثمان.
وسارة مولاة عمرو بن هاشم بن عبد المطّلب قتلت يومئذ، وقيل استؤمن لها رسول الله (صلى الله عليه وآله) فاوطاها رجل فرسه في خلافة عمر بالأبطح فقتلها (10).
ــــــــــــــ
1ـ أُنظر: إعلام الورى بأعلام الهدى 1/215.
2ـ أُنظر: الإرشاد 1/57.
3ـ أُنظر: بحار الأنوار 21/120.
4ـ أُنظر: تفسير مجمع البيان 10/470.
5ـ أعيان الشيعة 1/276.
6ـ نفس المصدر السابق.
7ـ الإسراء: 81.
8ـ الحجرات: 13.
9ـ أعيان الشيعة 1/277.
10ـ المصدر السابق 1/276