لستب كانت جزءا من ذاكرة الحصون

لستب البلدة التاريخية كانت أيضا جزءا من ذاكرة "الحصون"

إبراهيم غرايبه

تشكل لستب المجاورة لبلدة الهاشمية جزءا من ذاكرة أهلها التاريخية فقد استولوا عليها من المماليك عام 1839 وأقطعتهم الدولة العثمانية الأراضي الممتدة من البلدة إلى الشريعة، وهي من قبل حاضرة تضرب عمقا في التاريخ آلاف السنين.

كنيسة مار الياس في لستب تنسب إلى النبي إلياس (إيليا) الذي كان يعيش هناك قبل ميلاد المسيح عليه السلام بتسعمئة سنة، وقد تصدى لتحول بني إسرائيل لعبادة إله الكنعانيين والفينييقيين "بعل" بدلا من التوحيد، وقد ورد في القرآن "وإن الياس لمن المرسلين، إذ قال لقومه ألا تتقون، أتدعون بعلا وتذرون أحسن الخالقين"، ويوصف إلياس في التوراة ب إلياس اللستبي نسبة إلى لستب وتلفظ أيضا بالشين لشتب ولشتبي حسب اللغات واللهجات الآرامية، وهكذا فربما تكون "سبأ" في القرآن الكريم في قصة سليمان والهدهد هي "الشفا" والكلمتان تعنيان بالآرامية والعربية المكان المطل، إسبانيا أيضا هي تحريف للتسمية الفينيقية "سبأ" للجبال والمناطق المطلة على مضيق جبل طارق، فقد كانت مركزا فينيقيا، ويسمى وادي اليابس في التوراة "يابيش" نسبة إلى اليبوسيين الذين كانوا يستوطنون الوادي والمنطقة المحيطة، وقد أنهى النبي داود سيطرتهم على القدس واستولى عليها منهم بمساعدة أنسبائه "الفلستيون" وأخوال ابنه النبي سليمان.

وكانت بلدة لستب آهلة بالسكان في العصور الإسلامية، وبخاصة في العهد الأيوبي والمملوكي، وكانت في بعض الأوقات قصبة عجلون، ومن العلماء الذين ولدوا فيها: إبراهيم العجلوني، الذي توفي عام 1422م/ 825هـ، وكان قد تولى القضاء في عهد السلطان برقوق.

وعندما احتل محمد علي باشا حاكم مصر بلاد الشام عام 1830 نصب بعض المماليك حكاما على المنطقة، وكانوا يتخذون من لستب مقرا لهم، وفي عام 1839 ثار الأهالي على نواب محمد علي، وقتل جميع المماليك في لستب كما تتناقل الروايات الشفوية للأهالي في المنطقة، ومنذ ذلك التاريخ بدأ عهد جديد لأهالي المنطقة، منحتهم الدولة العثمانية تلك الجبال والأراضي والسهول الممتدة من سفوح الجبال إلى نهر الأردن.

كانت قلعة "الربض التي بناها صلاح الدين مركز الحكم، ويدير حاكم القلعة شؤون المنطقة الممتدة بين الصحراء والبحر وبين نهر اليرموك ونهر الزرقاء، وعندما جاء بيركهارت إلى عجلون عام 1812 وصفها بأنها أجمل مناطق سورية، وقال إن يوسف بركات حاكم المنطقة كان يقيم في القلعة، وكان رجاله في طبريا يجمعون المقاتلين والأنصار لأجل حروب محلية، وعندما احتل محمد علي باشا حاكم مصر بلاد الشام في عام 1830 أعاد المماليك حكاما محليين في المنطقة، كانوا قد أضعفتهم ثلاثمئة سنة من الحكم التركي العثماني، وهذا ما جعل عودتهم )ربما( مشحونة بالحقد والكراهية والاحتقار، جعلوا لستب قصبة عجلون، وبدؤوا على عجل في بناء قصر وقلعة، ومسجد، فالمسجد من أدوات السيطرة والحكم مثل القلعة والسراي، وكانوا يسوقون الرجال كل يوم للعمل سخرة لبناء القلعة الجديدة، أرادها الباشا المملوكي أن تكون بديلة لقلعة الربض، يساق الرجال بالقوة في الصباح فيسيرون في الجبال والشمس في عيونهم، ويعودون في العصر مرهقين جائعين، والشمس في عيونهم، فيشعرون بلعنة متواصلة.

وفي العيد تركهم الباشا يستريحون )لا بد أنه مات نادما لأجل ذلك وظل في عذاب أبدي من الندم( وجاء الرجال جميعا يحملون بنادقهم ليسلموا عليه، وبادروا جميع سكان القلعة بالبارود، أبادوهم جميعا، سوى طفل صغير في مهده، كانوا فريقين، أحدهما يطلق النار من بنادق تعبأ بالبارود المسحوق كالبودرة والفتيل المشتعل، ويتراجع ليعيد شحنها بالبارود، ويتقدم الفريق الآخر، هل شجعتهم الدولة العثمانية وأعطتهم السلاح؟ بقاء طفل في مهده يبدو جزءا من قصص الملاحم والبطولات والصراع، ويكبر الطفل ويصير له شأن! في تلك الفترة نفسها قتل الفريحات محمد الشهاب، كان شابا فارسا، هل كان لذلك علاقة بالتحالفات والصراع مع العثمانيين والمماليك؟ كان أخوه الصغير "أسعد" طفلا في مهده يعيش في كنف أخيه، وربته زوجة أخيه، العروس الأرملة، كان يجلس في مضافة الرجال، وينام في المضافة، وتأتي زوجة أخيه تحمله إلى فراشه، ولما كبر تزوجا، ولعل أسعد الشهاب كان أحد الفرسان المقاتلين في لستب، وأبناؤه اليوم يشكلون فرع "أسعد الشهاب" في الغرايبة، وأحدهم الدكتور خليف، ولعله أهم الدارسين للجغرافيا التاريخية والتاريخ الاجتماعي لمنطقة عجلون!

هل حرضتهم النساء، واتهمن رجولتهم وشجاعتم؟ من المؤكد أن الدولة العثمانية قد ساعدتهم ثم كافأتهم بعد انتصارهم، وربما تكون النساء تحدينهم كما تقول الرواية، جاءت فتاة "شمرية" لتعمل مع الرجال بدلا من زوجها، وكانت تتحزم بثوبها في أثناء العمل، ولكن عندما يقترب المملوكي من العمل تسدل ثوبها على قدميها، فسألها، لماذا لا تحتشم أمام الرجال الآخرين، قالت إنهم ليسوا رجالا، أنت الرجل فقط، فأسروها في أنفسهم، وأثبتوا للمليحة أنهم رجال، ربما تحتاج الرواية إلى أسطرة )جعلها أسطورة(، فالأسطورة تشحنها بالرموز والمعاني وتخلدها إلى الأبد، ستكون قصة مملة تنسى سريعا لو كانت مجرد اتفاق سري بين الدولة العثمانية والأهالي على الثورة.

ولكن عندما خُلع السلطان عبد الحميد نزع الحكام العثمانيون الجدد من الأهالي ملكية معظم أراضيهم في وادي الأردن (33 ألف دونم) ومنحوها للقادمين الجدد، وتحولوا بسرعة إلى فقراء لا يملكون سوى أجزاء وعرة من الجبل وقليل من الوادي، وبدأ زمان أهالي لستب بالأفول مع أفول الدولة العثمانية، ففي الحرب العالمية الأولى سيق جميع الرجال بين سن الرابعة عشرة والسبعين إلى البلقان، ولم يرجع منهم إلا بضعة نفر.

في لستب تجد نفسك قريبا من السماء، وتمتع ناظريك بلوحة نادرة من الطبيعة تمتزج فيها فضاءات المكان وتاريخه المليء بالحكمة والبطولة والعمل، الأنبياء والقديسون، والقادة والفرسان، والشعوب والمجتمعات التي دافعت وزرعت وأنجزت، وتصغي لعل بقايا أقوالهم تصل إليك، وتشعر وكأنك تزودت بما يفوق قدرتك على الاستيعاب والاستمتاع والتحمل، كأنك مثقل بالجمال والعبر، وكأنك وجدت ما لم تكن جئت لأجله ابتداء، ولكنك اكتشفت أنك ربما أضعت ما وجدوا، أو تبحث عن شيء جديد أفضت به لك الجبال والأشجار، لكنك لم تلمسه ولا أدركته تماما، وتزهو بأنك ربما كنت تجلس حيث جلس أنبياء وقديسون، ورحالة وملوك، وكأنهم ما زالوا هناك، ويثقلك الحاضر الذي يلهث وراء التاريخ، ولكنه ألم ممتع يجلو الروح والهمة، وينشط نفسك كما تنشطت رئتاك بهواء تتمنى لو تأخذه معك.

مشكووور خال ابو جهاد على اطلالتك علينا في هذا المنتدى

مشكووور خال ابو جهاد على اطلالتك علينا في هذا المنتدى

مشكووور خال ابو جهاد على اطلالتك علينا في هذا المنتدى

» حكاية كانت في غزه
» صخور المريخ كانت ذات يوم مشبعة بالمياه